لكي نتصور حال الفلسفة اليوم، لا بد أن نقف على الصور الذهنية الثقافية عن صعوبة الخطاب الفلسفي وتعقيداته، وهي صعوبة شاعت حول كتاب كانط (نقد العقل الخالص)، وتوالت منتشرةً كفكرة تلازم الفلسفة بمجملها، ونحيل هنا إلى ما عرضه ماركوس وايقولت المترجم الحديث لكتاب (نقد العقل الخالص) ترجمةً إنجليزية حديثة تتلافى تعقيدات الترجمات السابقة، وفي مقدمة ترجمته عرض لذاكرة الكتاب عند قراء كانط منذ يوم صدوره في القرن الثامن عشر، حيث صدم الفلاسفة في زمنه بسبب غموض أفكاره وتعقيدات أسلوبه، وظلت هذه العقدة ملازمة للكتاب رغم ما تحيل إليه سيرة كانط الواقعية في أحاديثه الخاصة ومحاضراته من لين في الخطاب وفي المحاورة، لكن ذلك لا يظهر على الكتاب، وكان الكاتب النمساوي «روبرت موسيل» قد روى قصصاً عن تجارب عانى أصحابها مع كتاب كانط لدرجة أن أحدهم استغرق نصف ساعة لكي يتجاوز الصفحة الأولى، فقط يتجاوزها وليس يستوعبها، وجرب أن يستسلم للقراءة لعله يدخل في جوها لدرجات عانى فيها من الغثيان والصداع وتعرق الجبين، وهي حالة يشير إليها «وايقولت» وللصدمات العنيفة مع القراءة قد تبلغ حد التفكير في الانتحار، وكذلك هي تجارب المحدثين كما كان السالفون مع ذلك الكتاب، وهو ما دفع «ماركوس وايقولت» لعمل ترجمة إنجليزية عصرية بناها على الترجمة الأولى متتبعاً مآزق الأولى، ومعدلاً للصيغ بالمقارنة مع الأصل الألماني، مع توظيف خبرته مع الكتاب وتعقيداته متحرياً تقديمه بلغة إنجليزية، تمكن القارئ من الاقتراب للنص. وبالنسبة لي، فقد اعتمدت نسخة «وايقولت» في كل إحالاتي في بحوثي حين أحيل لكانط، وتظل فكرة تعقيدات الفلسفة الوسيطة هي الصفة الملازمة لها. ومن هنا قال برتراند راسل: إن هيجل هو أشد الفلاسفة الكبار تعقيداً، وهو وصف لم يقله راسل عن كانط، وخص به «هيجل»، وقد لا نتفق مع «راسل» في هذا الوصف، ولكن كلمته تعزز التصور العام عن صعوبة الفلسفة وتعقيداتها، وإنْ كانت الفلسفة في أصلها لم تك معقدة لهذا الحد، فسقراط وأفلاطون وأرسطو لم يكونوا معقدين، ومثلهم كُثر في العصور المتعاقبة. وهنا يحضر السؤال عن وظيفة الفلسفة في حياة العصر الحديث، وهو العصر الذي وجد «ماركوس وايقولت» نفسه فيه محتاجاً لتصحيح مسار ترجمات كانط وإعادة تأسيسها تأسيساً يحاول تجسير الهوة بينها وبين قراء الفلسفة.
هذه الفلسفة المتعالية والمنعزلة بصيغتها الكانطية والهيجلية هل ستتأنسن..؟ وإنْ كان «وايقولت» حاول أن يؤنسن لغة كانط، فهل للفلسفة نفسها أن تكسر غلواء القرن الثامن عشر، وتحول المعقد إلى إنسانوي، وتحول هيجل إلى فوكو مثلاً حين اتجه لتحرير خطابه من سطوة هيجل، وإنْ أحس باستحالة ذلك، لكنه ولا شك تمكن من أن يتكلم ويفكر بلغة العصر وشرطه كما فعل «راسل»، حيث تحرك مع زمن الحداثة بفكر يتسق مع الشرط المعرفي لمعنى أن تكون الفلسفة حية تسير بين الناس، كما سارت بين الأسواق متمثلة بسقراط وأرسطو تحديداً. وسأسعى هنا لطرح رؤية حول هذا الموضوع.
View this post on Instagram
الصيغة العصرية للفلسفة
في عام 1990 طرح «أمبرتو إيكو» ورقة بحثية بعنوان التأويل والإفراط في التأويل (Interpretation and Overinterpretation). وبعد عامين من نشر الورقة، قام كل من ريتشارد رورتي وجوناثال كوللر وكريستين روس بتقديم مناقشات عميقة لهذه الورقة البحثية. وأصل الفكرة أن «إيكو» هالته الطرق التي تناول فيها القراء تفسير وتأويل روايتيه (اسم الوردة/ وبندول فوكو)، حيث ذهبت التأويلات مذاهب لم تك في خلد «إيكو»، والذي تبدت عليه الورقة أنها مرافعة بصوت المبدع في مواجهة المنظر، وغلب صوت المبدع على عقلية المنظر. وإيكو يمثلهما معاً، لكن انحيازه لروايتيه كان جلياً، وهذا وضعه في احتكاك جدلي معمق مع المقولات الجوهرية للنظرية النقدية، مثل مقولة (النص المفتوح)، وهي واحدة من نظريات «إيكو»، ومع نظريات أُخر مثل موت المؤلف وعصر القارئ والإشارة الحرة متعددة الدلالات، وهذا ما جعل أطروحة «إيكو» تغري الفيلسوف «ريتشارد رورتي» ليتشارك مع ممثلي تيارات النظرية النقدية لمناقشة ورقة «إيكو» وصدرت مناقشتهم في كتاب بالعنوان نفسه عام 1992، والكتاب هو جدلية فلسفية بصيغة النظرية النقدية تقف على مفاهيم التأويل والتفسير والمقاربات المعرفية والذهنية، وهي حفلة علمية تتجلى فيها العلاقة العضوية بين الفلسفة والنظرية النقدية وتعيد لحظة التأسيس الأولى على يد أرسطو لتكون جذعةً في زمن فقدت فيه الفلسفة تخصصات جمة كانت من خصوصياتها، فتمردت عليها ليس بأن تستقل عنها فحسب، وإنما لتحكم عليها بالموت حيناً وبانتهاء المهمة حيناً آخر، ومن هنا يصح لنا القول: إن النظرية النقدية هي الصيغة العصرية للفلسفة بعد خروج صيغ كثر عن الفلسفة وأهمها الفيزياء والبيولوجي والكوسمولوجي والطب، وقد كانت من مباحث الفلسفة في زمن مضى.
وفي الكتاب اجتمع ثلاثة من الباحثين الكبار في الفلسفة وفي النظرية النقدية، وخرجت دراسة ثرية معرفياً ومنهجياً من المحاورين الثلاثة، والمهم عندي هنا هو تضافر النقد مع الفلسفة بمجاورة مع المبدع، وبينهم تقف السيميولوجيا في موضع مبارزة عقلية بين عقول خبيرة ومتخصصة وعلى مستويات رفيعة في مجال النظرية والبحث السيميولوجي وعلم العلامات والإشارات وعلم الدلالة.
وظائف حيوية للفلسفة
وفي هذا العمل، تعود اللحمة المتينة التي تأسست أصلاً منذ أرسطو، وهو المعلم الأول الذي طرح النظرية النقدية لتكون مشروعه المعرفي الذي انطلقت منه نظريات النقد لتتطور عبر العصور متجددة مع عقول البشر، تضيف فيها كل ثقافة طرفاً يبني الهرم العظيم للفكر البشري وتتوالد المدارس والنظريات في تجاور متصل بين الفلسفة والنقد واللغة وشجرة النقد الألسني بتفريعاتها من البنيوية وما بعد البنيوية (التفكيكية، التشريحية، السيميولوجية، النقد الثقافي)، وهي شجرة تجمع الفلسفي باللغوي وتشكل منظومات مفاهيمية في التأويل وإعادة صياغة تحولات المعاني وطرح الأسئلة الشائكة بين الإنسان بوصفه (حيواناً ناطقاً وحيواناً عاقلاً) حسب مقولة أرسطو بالصيغتين معاً، حيث تتآزر سبل نطقه مع أنظمة تفكيره، ووظيفة الفلسفة بهذه الصيغة لن تموت كما زعم هوكينج، لأن منشط التفكر العقلي للبشر يعتمد على التفكر النقدي وعلى مهارات التأويل مع صناعة المفاهيم وإنتاج النظريات المعرفية والاستدلال العقلي، وهذه وظائف ظلت حيوية في الماضي كله، وهي حيوية كذلك في العصر الحاضر، ومن هنا فإن النظرية النقدية هي الصيغة الحديثة للفلسفة العصرية امتداداً وإحياءً لانبثاقها الأول واتصالاً بما يحدث اليوم، حيث هي أهم أداة في يد الفيلسوف المعاصر بعد أن استقلت العلوم الطبيعية وأصبحت تتفوق على الفلسفة بصيغتها التقليدية.
ويجب التأكيد أن ريتشارد رورتي لم يكُ طارئاً على النظرية النقدية، فهو على وعي تام بالموروث الأرسطي أولاً، ثم بالتحول المعرفي العميق الذي صنعته مدرسة فرانكفورت في أوائل القرن العشرين وتأسيسها للنظرية النقدية وممارسة نقد الفلسفات ذات التمركز المؤسسي التي أنتجت الدكتاتوريات، مثل هتلر وستالين والرأسمالية العمياء، وتبعاً لمدرسة فرانكفورت دخل هابرماس وقاد النظرية النقدية للحد الأعمق في صناعة المفاهيم، بما يتعاضد ويكمل جهود هايدجر الذي ترك أثره الضخم على نقاد القرن العشرين، فكان فوكو وديريدا مع رولان بارت ودي مان ويتبعهم رورتي وجون سيرل (فلسفة العقل/ فلسفة اللغة)، وهذا يعيد موروث أرسطو في النظرية النقدية، مما يقوي دور الفلسفة العقلية مسنودةً بفلسفة اللغة ومقولات النظرية النقدية الحديثة، بما أنها الصيغة الحديثة للفلسفة، إذ تقارب الحدث البشري المضطرب مع انفجار عصر الوسائل وتداخل الخاص مع العام في تشابك يلغي الفروق ويعيد ترتيب الأشياء والمفاهيم في تصاحبٍ مع انبثاق الذكاء الاصطناعي الذي وصفته بالعقلانية الجديدة في كتابي (السردية الحرجة)، وهي عقلانية رقمية تتشابك مع تحولات ثقافية واجتماعية تعيد ترتيب الثقافة البشرية ونظم تفكيرها في وقتٍ تتحرك فيه الهويات التي تتمرد على التهميش لتعيد قيمة اللون والعرق والجنوسة والمختلف فيما لم تعد المؤسسة قادرة على قمعه أو تجاهله، ومن هنا تتشكل عقلية ثقافية لم تعهدها الفلسفة في زمنها الأول ونخبويته وطبقيته، مما يقتضي تحولاً نوعياً وذهنياً.
«أم العلوم»
وإن كان معنى الفلسفة اليوم قد اتخذ صيغة النظرية النقدية، فإن صيغتها التقليدية المسماة بأم العلوم كلها قد أصبحت قديمة، وهي التي انتهت وأسلمت الراية لتخصصات أقدر من منها في مجالات الفيزياء والبيولوجي والكوسمولوجي، ولكن العقل البشري له علمه الخاص ولن تستطيع العلوم الطبيعية الاستغناء عن الفلسفة في هذا المنحى، لأنها لن تستطيع منع تدفق الأذهان بالأسئلة الجذرية عن الوجود ومعنى الوجود وتوق الإنسان ليتعرف على معناه الوجودي والروحي، كما الوجداني والمادي معاً وعلاقة المادي بالوجداني والعقلاني، وكل هذه معانٍ كبرى لما يزل الإنسان يقف عليها قبل أن تستقل العلوم الطبيعية وبعدها، وموت الفلسفة الذي جهر به ستيفن هوكينج ليس سوى تغير جذري في وظيفة الفلسفة على أنه عودة للأصل الأرسطي في النظرية النقدية.
وعماد القول هنا هو إن كنا نعني بالفلسفة متن الفلسفة منذ سقراط حتى يومنا.. فهذا متن معرض للتيبس؛ بمعنى أنه يتعرض لعلتين متلازمتين، أولاهما التكرار حتى لتجد الحوافر تقع على الحوافر في تعاقب مستمر وما طرحه الأولون يطرحه الآخرون مع الوقوع في العلة الثانية وهي تلازم حالة النقض، وكل فيلسوف يحرص على نقض قول غيره من سابقيه أو وصفها بالنقص، وهذا ما قاله روسو في نقده للفلاسفة من أن الواحد منهم يرى خطأه أحق من صواب غيره، وهي مسألة تشيع باستمرار وتنتهي بأن تقوض التفكير الفلسفي وتنتكس ضده كما كشفها ديريدا في حالة (التمركز المنطقي)، وقد اعتمد ديريدا على فلسفة اللغة لنقض الفلسفة التقليدية وابتدأ من البنيوية من أجل كشف بنية الخطاب، ومن ثم كشف تمركزاتها المنطقية وتقويض البنية من جذرها المنطقي وكشف حالة الانشطار السلبي فيها.
أما إن نظرنا للفلسفة على أنها منهجيات في الاستدلال العقلي وفي التفكير الناقد والبحث في المفاهيم ومخاتلات الدلالات، فالفلسفة حينها باقية ما بقي العقل البشري حياً ومنفتحاً على المعرفة والتوق الذاتي بأن يفكر بما وراء الأشياء، وهنا تأتي (النظرية النقدية) لتكون الصيغة الحية والمتجددة بوصفها منهجيات تعتمد التجريب الفعلي في النقد وتفتيق الأسئلة والتحول من منهجية إلى أخرى، كلما تشبعت الأولى وشارفت على استهلاك نفسها في التكرار القاتل.
على أن علة التكرار مع علة النقض لهما بعض مزية، حيث نلحظ الفيلسوف الواحد يستعيد أقاويل غيره ليقول إنه سيعرض لوجهة نظر تختلف عنهم، وهذه ميزة ينتج عنها إثراء المعرفة وتحفيز التفكر، وتجعل القارئ والقارئة يتحولان لنقد الخطاب الماثل أمامهما بسبب تأثير الاختلافات، وهذه في النهاية هي واحدة من أهم وظائف النظرية النقدية بجعل الناقد منقوداً.
النظرية النقدية
على أن هوكينج وهو يقول بموت الفلسفة قد غفل عن (النظرية النقدية) رغم أنه باحث معتبر في النظرية والمفهوم الفلسفي للنظرية، كما سنوضح في توريقة قادمة، وكذلك غفل عن فلسفة العلوم (الإبستيمولوجيا)، وهي تتشارك مع النظرية النقدية في اعتمادها على المنهجية والاستدلالية والغوص فيما وراء البحث التطبيقي ونحو الأسئلة المعرفية والمفاهيمية، وتحقيق درجات من الوعي التسبيبي وسبر معنى الوجود متجلياً بما يتكشف عن الحالة النصوصية أو الحالة المعرفية حتى للعلوم الطبيعية التي تعطي من الأسئلة الغامضة والمتحدية بمقدار ما تعطي من الاكتشافات، وتظل حائرة مع سؤال معنى الوجود وسببه ووظيفته العليا حول مآل الإنسان ودلالات وجوده. ودون ذلك سوف تتوحش العلوم الطبيعية، إن هي فقدت الفلسفة رديفاً لها للتعامل مع معاني الوجود وهنا يحضر السؤال:
هل تأنسنت الفلسفة اليوم..!؟؟
وهي لكي تتأنسن لا بد أن تتحول من المعقد إلى البسيط، أي من كانط إلى راسل مثلاً، وهذا ما كان عليه الثلاثة العمالقة الأوائل: سقراط الذي كان شفاهياً في خطابه وجماهيرياً في توجهه ومضاداً للنخبة حسب جملته الصارخة أثناء محاكمته (كلما رأيت حكيماً حاولت أن أثبت له أنه غير حكيم)، وهذا ما جعل المؤسسة تنتقم منه وتحكم عليه بالقتل بتهمة تهييج العامة، وكذلك فإن أفلاطون رغم نخبويته الطبقية، إلا أن لغته تسيل وضوحاً وتبياناً كما يتجلى في جمهوريته، أما عظيمهم كلهم أرسطو، فهو الذي جعل للفن والإبداع مقاماً رفيعاً في تنمية العقل والذوق البشريين، ولم يك فلاسفة مثل روسو وباسكال ونيتشة ثم راسل وسارتر إلا أدباء بمقدار ما هم فلاسفة، وهذا تأسيس إنسانوي حادت عنه الفلسفة مع كثير من فلاسفة الأزمنة المتعاقبة، مما شوه رسالة الفلسفة إنسانياً، وجعل الفلسفة تتمنع على الوصل الإنساني، وهذا يفضي للشرط الثاني في أنسنة الفلسفة بأن تكون مقروءة من الكل، ومن ثم مفهومة من الكل، وهذا أمر سعى له هوكينج في الفيزياء، فكتب كتابه (التاريخ المختصر للزمن) وحول التعقيد إلى تبسيط، لولا أنه عاد في كتابه المشترك (التصميم العظيم) وطرح مقولته الصادمة بموت الفلسفة، نتيجة لتسليمه بالحتمية العلمية والتي تصر عند هوكينج على أن ما لا يثبت فيزيائياً، فهو غير موجود، متجاهلاً بذلك توق الإنسان لمعرفة سر وجوده ومعنى وجوده ومصير وجوده، وهذه عودة للتوحش التخصصي الذي يفصل المعرفي عن الإنسانوي.
وأخيراً، فالفلسفة من بعد أن كانت قوة ضاربة ومتعالية ومتفردة بوصفها أم العلوم، أصبحت في موقع الدفاع عن وجودها، كما أشرنا في التوريقة السابقة، وأصبحت تتلمس وظيفة تحمي مقامها بين العلوم، وقد كان للتقدم العظيم للعلم الطبيعي أثره المحاصر للفلسفة بسحب تخصصاتها الكبرى، ومن ثم أصبحت منقودة من بعد أن كانت المتفردة بالنقد، وكل منقود يتحول بالضرورة للتواضع المعرفي ويتأنسن تبعاً لذلك. أما النظرية النقدية فتقوم على مبدأ (الناقد منقوداً)، وهنا ينكسر الغرور العقلاني الفلسفي، كما وصفه روسو، ليصبح الآن جدلية معرفية تقود لفتح القول وليس لتختمه. وكل فيلسوف معاصر اليوم أصبح يستعين بعلوم رديفة تحصن له ثقافته المعرفية بمادة تخصصية متينة المحتوى، وتسنده كحجة ثبوتية توحي أن تفكيره ليس منعزلاً عن الواقع ولا عن التجربة العملية، ومن هنا ستظل الفلسفة بوصفها التفكير الناقد لأنها تقبل دور التفكير المنقود.
قلق معرفي
على أن فلسفة العلوم (الإبستيمولوجيا) وفلسفة اللغة (النظرية النقدية) وكلتاهما إنسانوية وعقلانية، تعتمدان التفكير الناقد والتأسيس المفاهيمي والمنهجية المفتوحة للتطوير، على مبدأ أن ميزة العقل في قدرته على كشف عجزه حسب تعريف الغزالي، مع الالتزام بمقولة الناقد المنقود بعيداً عن الغرور العقلي الذي عاب الفلسفة كما قال روسو، وهو اليوم يعيب الغرور العلمي المتمثل بالحتمية العلمية منذ لابلاس حتى هوكينج.
والفلسفة إن سلكت هذين السبيلين، فستسلم من تهم مثل أن لا جديد في الفلسفة وأنها تكرر نفسها، أو أنها ماتت وحلت الفيزياء محلها، أو أن الرواية أقدر منها في كشف القلق الإنساني كما قال جون ليزلي، أو أن الحل الوحيد للبشرية هو الشعر وليس الفلسفة، وهي الكلمة التي قالها ريتشارد رورتي في لحظة قنوط جعلته يقول بموت الفلسفة من باب الحسرة على ما تمخض عنه القرن العشرون في نهاياته المنكسرة. وهو صدى لأسئلة طلبة الفلسفة لماذا ننشغل بمتون الفلسفة القديمة في زمن التكنولوجيا أو عقلانية الذكاء الاصطناعي، وهو قلق معرفي له ما يبرره. أما إن كانت متون الفلسفة تعني فقط أجوبة الفلاسفة القدامى عن القضايا الجوهرية للكائن البشري، فهذا يعني أن الفلسفة قد أنجزت وسيكون فيلسوف مثل هيجل هو خلاصة الفلسفة وتتويجها كما يصف نفسه ويصفه دارسوه، وهذه تعطي وجاهة للقائلين بنهاية الفلسفة، ولكن إن اعتمدت الفلسفة اليوم على مساري الابستيمولوحيا أو مسار النظرية النقدية وجعلت فلسفة العلوم وفلسفة اللغة ركيزة لها، وتعاملت مع الفلسفة القديمة بوصفها أسئلة لما تزل تتطلب أجوبة.. فهي ستتحرر من عقدة التكرار والاستعلاء الذاتي، وفي التوريقات القادمة مزيد قول عن تحرير الفلسفة من حال الاستحواذ الذاتي والخروج عن عباءة هيجل بوصف السالف قيداً يقيد اللاحق.
*أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود